أخبار العالمأخبار محلية

بورتسودان ونواكشوط.. خيوط دبلوماسية تنسج عودة السودان إلى إفريقيا

محمدن اياهي – موريتانيا

مقدمة:
في قارة تتقلب خرائطها تحت ضغط الأزمات والتجاذبات، وتبحث عن ذاتها وسط عواصف التحولات، تبرز لحظات دبلوماسية تشبه نبض القلب، لا تقاس فقط بحجم التصريحات، بل توزن بصدق النوايا وعمق الأثر. وفي هذا الإطار، لا يمكن المرور مرور الكرام على سلسلة الزيارات المتبادلة بين بورتسودان ونواكشوط. إنها ليست زيارات بروتوكولية، بل خيوط سياسية تنسج خارطة جديدة لعودة السودان إلى الحضن الإفريقي، عبر معبر موريتاني يعرف جيدا متى يتحرك… وكيف.

أولاً: العلاقات السودانية–الموريتانية.. إرث يتجدد

من الخطأ اختزال العلاقات السودانية–الموريتانية في الزيارات الأخيرة فقط. فهذه العلاقة تضرب بجذورها في عمق التاريخ السياسي والثقافي للقارة، حيث ظل البلدان شريكين في قضايا التحرر والوحدة والانتماء العربي–الإفريقي المشترك. لم تكن العلاقة يوما طارئة أو وظيفية، بل علاقة وجدانية واستراتيجية في آنٍ واحد.
الوجدان المشترك، والجغرافيا الممتدة، والرؤية المتقاربة نحو قضايا القارة، هي ما جعل من هذه العلاقة أساساً قابلاً للبناء عليه في الظروف الاستثنائية.

ثانياً: موريتانيا.. دبلوماسية العقل والرؤية المتزنة

في زمن الاصطفافات الحادة، برزت موريتانيا كقوة هادئة ومتزنة، تمارس دبلوماسية ناعمة ولكن ثابتة، تحرص على التوازن وتتفادى التورط، وتُراكِم أوراق التأثير بهدوء. وقد مكنها هذا النهج من أن تكون فاعلاً محترماً في محيطها الإفريقي، والعربي، والدولي.
زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى نواكشوط لم تكن لحظة عابرة، بل خطوة استراتيجية تمثل بداية مسار لإعادة ترميم موقع السودان ضمن فضائه الطبيعي. تلتها زيارة نائب رئيس مجلس السيادة، الفريق أول ركن بحري إبراهيم جابر، حيث التقى الوزير الأول الموريتاني المختار ولد أجاي، لتتكرس بذلك إرادة متبادلة في تنشيط هذا المسار، وبناء أرضية حقيقية لتعاون إقليمي جاد.

ثالثاً: السودان.. مفترق طرق واستحقاق العودة

السودان، بتاريخ قوّته الجيوسياسية، وموقعه المحوري بين شمال إفريقيا وشرقها ووسطها، وبعمقه الثقافي الإفريقي، يُعد لاعباً لا يمكن إقصاؤه دون أن تختل التوازنات القارية. ورغم ما يمر به من أزمات داخلية حادة، فإن موقعه لا يزال مطلوباً، بل وضرورياً، ضمن أي تصور استراتيجي لمستقبل القارة.
العودة إلى الحضن الإفريقي ليست منّةً تُمنح للسودان، بل ضرورة جيوسياسية تمس أمن واستقرار إفريقيا نفسها.

رابعاً: موريتانيا كجسرٍ للعودة الإفريقية

من خلال رؤيتها الواقعية، وشبكة علاقاتها المتوازنة، باتت موريتانيا تمثل قناة عبور استراتيجية لعودة السودان إلى الفضاء الإفريقي. ويمكنها أن تلعب أدواراً محورية على أكثر من صعيد:

• الوساطة السياسية بين الفرقاء السودانيين، من خلال نقل الخبرة التفاوضية التي راكمتها نواكشوط في عدة ملفات إفريقية وعربية، وطرح مبادرة جامعة غير منحازة.

• ⁠تفعيل الحضور السوداني في المؤسسات الإفريقية، من خلال دعم موريتاني مباشر ضمن الاتحاد الإفريقي ومحيطه المؤسساتي، لاستعادة عضوية فاعلة ومؤثرة.

• ⁠القوة الناعمة والشراكة المجتمعية، عبر فتح مسارات للتبادل الثقافي، والتعاون البرلماني، والمبادرات الطلابية والإعلامية، التي تعيد جسور الثقة والانتماء.

خامساً: زيارة الوفد البرلماني.. تتويج لمسار لا يتوقف

تُوّج هذا الحراك الدبلوماسي بزيارة رسمية قام بها وفد من البرلمان الموريتاني إلى مدينة بورتسودان، في خطوة تعبر عن أن الحراك لم يعد حكراً على المستويين التنفيذي والدبلوماسي، بل أصبح توجهاً عاماً للدولة الموريتانية، يشمل المؤسسات التشريعية، ويعكس إجماعاً وطنياً حول أهمية استعادة السودان لموقعه داخل القارة.

خاتمة: لحظة تتخطى الشكل إلى الجوهر

ما بين بورتسودان ونواكشوط، ليس مجرد تنسيق مصالح، بل رؤية شاملة تُدرك أن الأمن القاري لا يتحقق بالتفرقة، وأن استقرار السودان هو جزء من استقرار إفريقيا برمتها. إنها لحظة استثنائية، تُعيد تعريف العلاقة بين بلدين، وتمنح موريتانيا دوراً يليق بحكمتها ومكانتها، وتمنح السودان فرصة للعودة من موقع الند، لا من موقع المنكسر.
وهكذا، حين تتحرك الدبلوماسية بالعقل والقلب معاً، تُنسَج الخيوط بهدوء ولكن بثبات، وتُعيد رسم الخرائط السياسية بروح الانتماء، لا بلغة المصالح العابرة.


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى