أخبار العالمأخبار محلية

دكتور عبد الناصر سلم يكتب : من الموصل إلى الخرطوم: عندما تنتصر الدولة على التمرد

د.عبدالناصر سلم حامد

باحث في اداره الازمات ومكافحه الارهاب

من الموصل إلى الخرطوم… عاصمتان دُفنتا تحت رماد التمرد المسلح، لكنهما نهضتا من تحت الركام، بقيادة الجيوش الوطنية، وبإرادة الشعوب التي رفضت الاستسلام للفوضى. في العراق، سقط مشروع داعش في الموصل عام 2017، وفي السودان، انهار مشروع الدعم السريع مع تحرير الخرطوم في مايو 2025. هذا المقال يستعرض كيف تنتصر الدولة حين تصمد، وتُحسن القتال، وتملك مشروعًا بديلاً عن الخراب.

في 20 مايو 2025، أعلن الجيش السوداني تحرير الخرطوم بالكامل، بعد صراع بدأ في أبريل 2023 ضد مليشيا الدعم السريع. شكل هذا الحدث لحظة فاصلة في الحرب، وسقوطًا مدويًا لمشروع التمرد المسلح الذي سعى لتقسيم البلاد وتقويض مؤسسات الدولة.

كما كانت الموصل تمثل قلب مشروع “داعش” في العراق، كانت الخرطوم تمثل القلب الرمزي والسياسي لمليشيا الدعم السريع. في كلتا الحالتين، دار الصراع على السيطرة على مركز الدولة، لا فقط على أرض أو موقع عسكري.

فشلت تكتيكات الدعم السريع في العاصمة رغم سيطرتها المبكرة على مناطق واسعة، بسبب التمدد المفرط دون عمق دفاعي، والاعتماد على المدنيين كدروع بشرية، مما خلق حالة رفض شعبي واسع، إضافة إلى غياب الخبرة في حروب المدن الطويلة، والضعف الإداري وانعدام الخدمات في مناطق سيطرتها.

في 20 مايو 2025، شكّلت عملية تحرير صالحة من قوات الدعم السريع واحدة من أكثر المعارك تعقيدًا وحسمًا ضمن الحملة العسكرية لاستعادة الخرطوم. فصالحة، الواقعة جنوب غرب أم درمان، تحوّلت خلال عامين إلى أكثر مناطق العاصمة تحصينًا وتمركزًا لعناصر الدعم السريع، وكانت مقرًا ميدانيًا للقيادة والتحكم في جبهة غرب النيل. خلافًا للمعارك التقليدية، واجه الجيش السوداني في صالحة نمطًا من حرب العصابات الحضرية وسط مناطق سكنية مكتظة، ما تطلب تحركًا بالغ الدقة لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين. القوات الخاصة السودانية نفذت عمليات نوعية مبكرة لتحديد مواقع تجمعات القيادة، ومخازن الذخيرة، واستخدم الجيش معلومات استخبارية تم جمعها ميدانيًا عبر السكان المحليين. لأول مرة خلال المعارك داخل الخرطوم، تم استخدام مكثف للطائرات المسيّرة التكتيكية، والتي استُخدمت في استهداف وحدات القناصة والدفاعات المتحركة في الأزقة الضيقة. في الوقت ذاته، نفذت وحدات المهندسين العسكريين عمليات فتح ممرات آمنة للمدنيين وتفكيك العبوات الناسفة التي زرعتها المليشيا. بمجرد اختراق الدفاعات الشمالية لصالحة، انهارت شبكات الإمداد التي كانت تصل الدعم السريع عبر النيل الأبيض وجنوب جبل أولياء، ما أدى إلى فرار جماعي لعناصر المليشيا باتجاه مناطق مفتوحة بلا غطاء ناري أو لوجستي. أهمية المعركة لم تكن فقط جغرافية، بل نفسية واستراتيجية، إذ أن سقوط صالحة مثل إعلانًا عمليًا بنهاية الوجود المنظم للدعم السريع داخل العاصمة.

اعتمد الجيش السوداني على التطويق الذكي والضربات الجراحية الدقيقة، والعمل الاستخباراتي مع الأهالي والمقاومة الشعبية، والهجمات المتزامنة على مراكز القيادة، وحرب نفسية إعلامية عززت الانهيار الداخلي للمليشيا. وقد نجح الجيش في تحرير الخرطوم دون تدمير شامل للبنية التحتية، وهو إنجاز لافت في حرب مدن بهذا الحجم.

وفقاً لتقديرات منظمات غير حكومية وتقارير ميدانية مستقلة، تسببت الحرب التي دارت في العاصمة والمناطق المتاخمة لها في مقتل ما لا يقل عن 150,000 شخص منذ أبريل 2023، ونزوح أكثر من 13 مليون شخص من منازلهم، بما في ذلك 4 ملايين عبروا الحدود إلى دول الجوار. وُصفت هذه الحرب بأنها من أسوأ الكوارث الإنسانية في إفريقيا خلال العقد الأخير.

رغم توثيق انتهاكات جسيمة، ظل الموقف الدولي صامتًا أو متواطئًا. بعض القوى الإقليمية وفرت تمويلًا أو غطاءً سياسيًا غير مباشر لقوات الدعم السريع، لكن تحرير الخرطوم فضح هذا التواطؤ وأسقط مشروعية المليشيا. منظمة هيومن رايتس ووتش قالت في تقريرها الصادر في مارس 2025: “وثقنا أدلة دامغة على ارتكاب قوات الدعم السريع لجرائم ضد الإنسانية، من بينها الإعدامات الميدانية، الاغتصاب، والاعتداء على البنية التحتية المدنية في الخرطوم ودارفور.” (HRW – Sudan Report, March 2025)

على المستوى الإقليمي، الإمارات متهمة بتقديم دعم لوجستي غير مباشر لبعض وحدات الدعم السريع. مصر تبنت مقاربة داعمة للجيش السوداني باعتباره إحدى مؤسسات الدولة الوطنية، مع تأكيد دعم وحدة وسلامة الأراضي السودانية، ورفض التدخلات التي تهدد استقرار البلاد. روسيا تابعت الموقف من خلال نشاط مجموعة “فاغنر” في المنطقة، فيما دعمت الولايات المتحدة جهود وقف إطلاق النار لكنها لم تمارس ضغوطًا كافية لوقف الانتهاكات.

تحرير الخرطوم ليس نهاية الحرب، بل بداية مرحلة دقيقة تتطلب تحركًا وطنيًا شاملًا، وتشمل الاستحقاقات التالية: تشكيل حكومة مدنية انتقالية شاملة، إعادة بناء مؤسسات الدولة، مباشرة عملية عدالة انتقالية ومحاسبة عادلة، إطلاق خطة إعادة إعمار عاجلة، ومصالحة وطنية ومجتمعية حقيقية.

شهدت معركة الخرطوم خصائص واضحة لحروب الجيل الرابع، حيث لم يكن الخصم جيشاً تقليدياً، بل قوة مسلحة شبه نظامية تمتلك تمويلاً، ومرونة حركية، وتكتيكات غير متوقعة. اعتمدت قوات الدعم السريع على التمركز داخل البنية المدنية كغطاء، واستخدمت الإعلام كسلاح موازٍ، بينما اختار الجيش استراتيجية الإنهاك والاستنزاف، مع تفوق في المعلومات والتكتيك. الدرس العسكري الأهم: أن الجيوش النظامية، حتى في ظل تعقيدات حروب المدن، قادرة على الحسم متى ما التزمت بالتخطيط الذكي والارتباط بالمجتمع المحلي.

لم يكن سقوط الدعم السريع في الخرطوم مجرد نهاية لوجوده في العاصمة، بل يمثل لحظة الانفجار المركزية التي ستقود على الأرجح إلى انهياره الميداني والتنظيمي في بقية السودان. فالخرطوم لم تكن فقط العاصمة السياسية، بل كانت أيضًا المركز القيادي واللوجستي الرئيسي للمليشيا، ومحور التمويل والسيطرة الإعلامية والنفسية، وحاضنة شبكات الإمداد المرتبطة بالمناطق الأخرى، من دارفور إلى كردفان وحتى أجزاء من الجزيرة. مع سقوط الخرطوم، انقطعت خطوط الاتصال والتوجيه، وبدأت تظهر مؤشرات التفكك الميداني، أبرزها: انهيار الروح المعنوية في أطراف دارفور، تراجع القدرات التمويلية، مع فقدان السيطرة على بعض الطرق والمعابر الحيوية التي كانت تمر عبر الخرطوم؛ ضعف التنسيق بين الوحدات الميدانية، حيث كانت القيادة الموحدة في العاصمة تلعب دورًا حاسمًا في توجيه العمليات وربط الجبهات ببعضها. التاريخ العسكري يبرهن أن سقوط العاصمة في الحروب غير النظامية يعجّل بانهيار المشروع العسكري والسياسي للمتمردين، كما حدث في الموصل وسرت. وإذا لم تستطع المليشيا أن تحافظ على “رمز وجودها”، فإن قدرتها على التماسك في الهامش ستتآكل بسرعة. بالتالي، فإن تحرير الخرطوم ليس نهاية معركة واحدة، بل بداية سلسلة انهيارات محتومة لمشروع الدعم السريع، ما لم تحدث تدخلات خارجية تعيد تشكيل ميزان القوى – وهو ما يبدو مستبعدًا في الوقت الراهن.

تحرير الخرطوم لم يكن مجرد نصر عسكري، بل لحظة حاسمة في إعادة تثبيت شرعية الدولة داخلياً وخارجياً. سقوط الدعم السريع في العاصمة أنهى وهم القوة البديلة، وأعاد الاعتراف الشعبي والمؤسساتي بالجيش كممثل للسلطة الشرعية. كما كسر حاجز الخوف في المناطق الأخرى التي بدأت تتحرك ذاتياً ضد المليشيا. على المستوى الدولي، فُتح باب الاعتراف الدبلوماسي بمرحلة انتقالية جديدة، وأعيد تموضع السودان في معادلات البحر الأحمر والقرن الإفريقي. تحرير الخرطوم كان نقطة تحول في هوية الدولة السودانية، ومن يملك “الشرعية” و”القوة” في آنٍ واحد.

تحرير الخرطوم يشبه في رمزيته واستراتيجيته ما جرى في الموصل، إذ لم يكن الهدف فقط طرد جماعة مسلحة، بل استعادة الدولة من قبضة مشروع تمرد مهيكل. التحدي الآن هو في تحويل النصر إلى مشروع وطني جامع، يعيد للسودان مدنيته، وعدالته، ووحدته. فالخرطوم التي تحررت ليست فقط مدينة استعادت أنفاسها… بل وطن كامل، يجب أن يُبنى من جديد، على أنقاض الخوف، وبأمل لا ينكسر


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى